مقالات في الأدب العربيّ (Arabic Literature Essays)



تأثير الحرب الأهليّة في أعمال هدى بركات


هدى بركات هي إحدى الأصوات الأصلية العربية الحديثة قضت أغلبيّة أوقاتها في لبنان ثم انتقلت الى بارس حيث تتوظّف الى حين ما نتكلم عنها. وأعمالها قد ترجمت الى عديد من اللغات العالمية من الانجليزية والفرنسية العبرانية والإيطالية والأسبانية والتركية والألمانية والإغريقية. هدى بركات مع أنها الآن في بارس وامتزجت عناصر حضارة بارس وثقافتها بدمها ولحمها وتتقن اللغة الفرنسية تكتب وتستمرّ في كتابة روايات في اللغة العربية وتجيب عندما سئلت عنها في مقابلة في بريطانيا خلال زيارتها هناك "أنا أكتب اللغة الفرنسية ولكن أحب اللغة العربية وأنا عاجزة أيضا عن تصوير نفسي بحقيقتها في الفرنسية ولو أخذنا على سبيل المثال، نحن العرب نقول كلمة "آه" عندما نتجرّع بالألم ولكن لا يمكن أن تنقل هذه الكلمة بعاطفتها الى غير لغتك وهناك لغة في صميم فؤادك وقلبك وذلك لغة جسمك أيضا ولو أوثر غير هذه اللغة لا يمكن أن أكتب".
نبذة عن حياة الروائية هدى بركات
الروائية هدى بركات ولدت سنة 1952 وتخرّجت من جامعة بيروت سنة 1975 في الأدب الفرنسي وصارت معلّمة في جنوب لبنان لسنة واحدة وبعد بداية الحرب الأهلية انتقلت الى "بشار" في الشمال وخلال 1975-1976 غادرت بلادها الى بارس للحصول على الدكتوراه ولكن الحرب الأهلية ألحّتها للرجوع الى لبنان حيث توظّفت معلمة وصحافية ومترجمة.
وأوّل عملها لقي الضوء هو مجموعة قصصية باسم "الزائرات" سنة 1985 وروايتها "حجر الضحك" نالت على جائزة الناقد و"حارث المياه" على وسام نجيب المحفوظ  للأدب في 2001 ولها أعمال من "أهل الهوى" و"سيدي وحبيبي" و"رسائل الغريبة" وهي تعمل الآن لمحطّة إذاعة راديو في اللغة العربية في بارس.
الحرب الأهليّة اللبنانيّة
الحرب الأهليّة اللبنانيّة هي حرب دمويّة وصراع معقّد دامت لأكثر من 16 عاما و 7 أشهر في لبنان (13 أبريل 1975 - 13 أكتوبر1990)، وتعود جذوره للصراعات والتنازلات السياسيّة في فترة الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا، وقد حصل توقّف قصير للمعارك عام 1976 لانعقاد القمّة العربيّة ثم عاد الصراع الأهلي ليستكمل وعاد ليتركّز القتال في جنوب لبنان بشكل أساسي، والذي سيطرت عليه بداية منظمة التحرير الفلسطينية ثم قامت إسرائيل باحتلاله.
بداية الحرب:
يختلف في تاريخ بدء الحرب، لكن يتفق الكثيرون أنها بدأت في 13 أبريل 1975 حيث كان هناك محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم الماروني بيار الجميّل قام بها مسلّحون فلسطينيون وأدى إلى مقتل مرافقه "جوزيف أبو عاصي"، ورداً على هذه الحادثة حصلت حادثة عين الرمانة التي هوجمت فيها إحدى الحافلات المدنية وكان يتواجد فيها ركاب فلسطينيين مما أدى إلى مصرع 27 شخص.

وإنتهت الأحداث بانتشار الجيش السوري بموافقة لبنانية عربية ودولية وذلك بحسب اتفاق الطائف[1].
مرت على لبنان حروب أهلية عديدة على مر العصور. ومن أهمها في العصر الحديث:
·         مجازر 1840: حصلت عام 1840 بين الدروز والموارنة.
·         مجازر 1860: حصلت عام 1860 بين الدروز والموارنة.
·         أحداث 1958: حصلت عام 1958 بين الدروز والمسلمون السنة الموالين لمصر من جهة والقوى الوطنية اللبنانية (المسيحيون والشيعة) من جهة أخرى.
·         الحرب الأهلية (1975-1991): أهم الحروب أو المعارك الأهلية التي حصلت خلال هذه الحرب:
ومما لا يشك فيه أحد ولا يختلف فيه اثنان أن هناك خسائر ضخمة للحروب والجوانب السلبية التي لا تحصى ولا تحدّ وفي نفس وقته أن الحروب والكوارث والدواهي أخصبت مجالات الفنون خاصّة حقول الأدب وصارت أعمال الأدباء أكثر بيعا في المتاجر والمكتبات ونالوا حظوة عظمى فالحروب جعلتهم أغنياء كما جعلت ضحاياها الفقراء والمعدمين والحرب الأهلية اللبنانية تعتبر من أبرز الحروب الأهلية التي نشبت في القرن العشرين واستمرّت لأكثر من عقد من الزمان وأكلت بنيرانها الأخضر واليابس وجادت قريحة الأدباء والكتّاب بالكثير من الأعمال الروائيّة التي أثرت المكتبة العربية وساهمت في التعريف بخفايا هذه الحرب من الناحية الاجتماعية والسياسية و الأعمال الروائية التي تناولت موضوع الحرب الأهلية اللبنانية لكتاب لبنانيين وغير لبنانيين كثيرة ومنها:
"الجبل الصغير" لإلياس خوري، و"بيروت..بيروت" لصنع الله إبراهيم، و"طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد، و"تلك الذكريات" لإملي نصر الله، و"رواية مراسلات الحب الأعمى" لعبد الرحمن دلول، و"وسادة الحجر" لفيوليت طراد الخوري، و"كوابيس بيروت" لغادة السمان، و"الاعترافات" لربيع جابر، و"الذاكرة للنسيان" لمحمود درويش، و"حجر الضحك" لهدى بركات وما إلى ذلك.
الحرب الأهليّة في سطور أعمال هدى بركات
أن صاحبتنا هدى بركات التي هي على مائدة بحثنا الآن تتظلّل في سطورها وكلماتها بل في حياتها ظلال الحرب الأهلية اللبنانية وأشعالها النيرة التي لا تزال تشتعل في أعمالها كما في قلبها، وهذا من الواضح عندما يقلق قلبنا وفؤادنا شيئ تجرّبنا أم شاهدنا أم سمعنا عنه يتأثّر في كل عملنا خاصة في كلامنا وكتابتنا  وهذا في بعض الأحيان يحوّل أفكارنا الى غير ما نهتمّ بها ويغلب علينا في كل حركاتنا وسكناتنا ونكون معها وفيها ومشغولا عن سائرها.
وهذه الروائية تأثّرت فيها كثيرا الحرب الأهلية اللبنانية الدامية وممكن ترى في كل حروفها لون الدم وتسمع صوت القنابل والقذائف منها.

وفي روايتها "ملكوت هذه الأرض" تعود هدى بركات الى ما يمكن وصفه بـ "فردوس مفقود" أنها رواية البحث عن "زمن  ضائع" تجري أحداثه قبيل إعلان الاستقلال في أوائل الأربعينات وتصل الى حدود الحرب الأهلية في بداية السبعينات. وتتجلّى فيها التحوّلات التى عصفت بالمكان وسكّانه وحوّلت أحلامهم الى خيبات متتالية تنتهي على تخوم الحرب الأهلية[2]. لعلّ ذلك يترجم جزءا من سيرة المؤلفة التي عاشت في المكان نفسه بل هذا أمر أكيد قد واجهت في حياتها وكافحت للحياة السليمة لأن الأديب يصوّر ما يختلج في أنفاسه وهذا لما يقال الأديب ابن عصره فأعماله وكتاباته وكلماته تعدّ نسخة تاريخية من جهة واحدة مع أن المقال "الفن للفن" يبقى مع الجدال والنقد فيه.
والحرب الأهلية اللبنانية تتظلّل في سطور روايتها "أهل الهوى" أيضا كما تقرأ في مشهد:" كان ذلك قبل ظهر يوم أحد ، مرّ بي أحد الشبان من جيراننا وشرب القهوة معي . كان حائراً في أمره، فهو مضطر للنزول إلى العاصمة وليس في سيارته مايكفي من الوقود . كان البنزين مقطوعاً ، لكنه سمع أن محطة في طرف مدخل قريتنا ، قد يصلها صهريج قبيل الظهر ، وطلب مني أن نذهب معاً في سيارته وننتظر أمام المحطة ... بينما كنا ننتظر ، رأيتها تمر بسيارتها باتجاه قريتها. قلت لصديقي هيا بنا إلى القرية القريبة ، فمن المؤكد أن في محطاتها بنزيناً ، لكنه لم يجرؤ وقال : مستحيل ، قد يخطفوننا ، أو أننا سنتبهدل في أحسن الحالات ، فنحن لسنا نساء، سيتعرفون علينا لامحالة . ثم سمعنا دوي الانفجارات ، رأينا دخان القذائف المتساقطة قريباً منا في الوادي . أدار صديقي محرك سيارته لنهرب لكنه كان ينطفيء قبل أن تقلع . نزلنا من السيارة لنختبيء وراء جدران المحطة ونحن نعلم خطورة انفجارها لدى أول شظية ... ثم رأيتها تعود بسيارتها باتجاه قريتنا . لحقت بها صارخاً . فتوقفت . صعدت الى جانبها . ثم صرنا نرى القذائف تنزل على الطريق . بعيداً أمامنا . نزلنا من السيارة وأخذنا نتسلق الغاب إلى يمين الطريق لنحتمي بالصخور العالية . كنت أجرها من يدها جراً لأنها كانت خائفة جداً، ولا تعرف أين أتجه بها ، كانت تردد : لكن ما الذي جرى ؟!.. هبط الليل وكنا لا نزال نحتمي بصخرة عالية ، كنا نرى القذائف الحمراء تشتبك في السماء ، قبل أن تنصب على القريتين وجوارهما ، ثم وجدت أني أحضنها تماماً ، وأن رأسها في صدري، وحدَسْت أنه ليس الخوف وحده... " (ص:69).
وكان الناس يتقاتلون بينهم في لبنان وكان القتال بين المنظّمات والحركات السياسية أسالوا دماء الآخرين وقاتلوا حتى قاد القتال الى موت العديد وتجريح الأخر والناس يتفكّرون عن دماء أهل وطنهم ويشتغلون بالأسلحة ومع الأسلحة يقضون أوقاتهم وهذا في نفس الرواية ينعكس حيث تكتب:" لم تكن أسلحة كثيرة في القرية ، وكانت في أكثرها أسلحة قديمة وبدائية بعد ان اخذ الشباب الى الجبهات ماكان صالحاً منها ، لكن الرجال نظفوها بتأن ، ووضعوها على مقربة، دون كلام كثير عن جمال الأسلحة والمباهاة بها" (ص:143).
وأضع هنا بعض المقاطع التقطت من حجر الضحك لأن أزوّدكم وأمتّعكم بالعلم وأدلّكم على عمق تأثّر الحرب في قلب الروائية هدى بركات.
تقول: "أقلق هذا الهاجس خليل قلقا حقيقيا...ما كان ينام ملأ جفونه حتى أنه اشترى قماشا كحليا داكنا..."[3] (ص:58)
"أعرف أنه كان صديقك..صديق حميم..أفهم حزنك عليه ووحشتك دونه..ولكن من منا لم يفتقد شخصا عزيزا في هذه الحرب اللعينة...منذ الحادثة أتت...لا أحد يراك...أعني مكوثك في البيت..."(ص:59)
"وحين كان يعود الى غرفته كان يقف وسطها بحجم جسده القليل لكن باحساس شديد بالثقل واللامنفعة. يلوي رأسه ثم فمه عن بكاء ناشف وقبل أن يستند الى الكرسي أو الحائط كان يردد يا إلهي، أتمنى أموت حبا...."[4] (ص:60)
"لا يزورون قبره ..لا يرفعون من البيت ثيابه المدماة، لا يحلقون ذقونهم لا يسيرون في الطرقات ولا يستقبلون المعزين الا بعد أن يأخذوا بثأره...بعدها يموت الميت فيصبح الحداد عليه شرعيا.."[5] (ص:60)
"لأن كل الناس تلعن المسلّحين يعتبرونهم زعرانا بلا تربية يقتلون وينهبون ولكن أنا ما شأني.."[6] (124)
"حتى زهرة لا تحبني قال خليل لنفسه، وهو يقترب من منعطف شارع الجديدة.."[7] (ص:140)
"رأى ثلاثة فتيات يركضون ثم يتفرقون الى الأزقة.سمع رصاصا كثيفا فوقف في مكانه...ثم دوى انفجار قوي.."[8] (ص:233)
وفي الخلاصة أن روايات هدى بركات كانت إحدى القنابل انفجرت إثر الحرب الأهلية وفيها ضحايا وفيها آلام وفيها أرامل الضحايا والمعدمون ومنها تسمع أنين المتألّمين وعويل المتجرّحين والأصوات المخوّفة للقنابل والقذائف وإليها تجذب الانتباهات.
وبالكلمة،
هدى بركات فوق أنها إحدى الروائيات العربية أنها تحتفظ على بعض القيم والمبادئ أيضا والعناصر التي تجعل أعمالها حيّة يقظة مرهفة بأنها لا تخيّل الأبطال ولا تقلّد قدمائها بل تسير على مسيرة حرّة تسوّد بياض صفحاتها بما تخطر ببالها من الأمور التي ألمّت بقلبها من الآلام والأحزان مع أن الحرب الأهلية تلعب دورا أكبر في هذا السياق وفي الوهلة الأولى يخيّل إلينا حتى عناوين رواياتها تتداول رسالة دمويّة بل كما تبقى ذلك من ألفها الى يائها.
وفي الأخير أضيف ما شاركت الكاتبة هدى بركات النصرانية في مقابلة أجرتها مجلة من بريطانيا خلال زيارتها هناك مع نخب للمملكة الاتحادية حيث تقول: أنا دائما أتفكّر أن الرجال عانوا وواجهوا كثيرا من الصعوبات في المجتمع أكثر من النساء لأن المجتمع عندما يكون في حالة طارئة وأزمة جديّة يسأل ويستغيث من رجاله لا من نسائه وأنهم يأخذون الأسلحة ويروحون الى ساحة الوغي والمرأة ليست عامة تخرج كالرجل وهذا الأمر يعطيها أكثر حريّة وحراسة على أنها مرأة وهناك عناصر جسديّة أيضا تمنعها من الخروج الى الخارج كالرجل وتاريخيّا أن المرأة ليست محاربة ولكن لا وجود للمحارب بدون النساء.



[1] اتفاق الطائف وإنهاء الحرب :في أغسطس 1989 توصل النوات اللبنانيون في الطائف بوساطة المملكة العربية السعودية إلى اتفاق الطائف الذي كان بداية لإنهاء الحرب الأهلية. بعودته النواب اللبنانيون من مدينة الطائف انتخبوا رينيه معوض رئيساً للجمهورية ولكن ميشال عون رفض الاعتراف بمعوض ورفض اتفاق الطائف وذلك لأن الاتفاق يقضي بانتشار سوري على الأراضي اللبنانية. قُتل رينيه معوض بعد انتخابه ب 16 يوم وخلفه إلياس الهراوي. رفض ميشال عون الاعتراف بإلياس الهراوي أيضا. تم إقصاء ميشال عون من قصر بعبدا الرئاسي واعدام المئات من انصاره في أكتوبر عام 1990 بعملية لبنانية-سورية مشتركة وبمباركة أمريكية حيث فر ولجاء إلى السفارة الفرنسية وتوجه من بعدها إلى منفاه في باريس.
انتهت الحرب اللبنانية الأهلية باقصاء ميشال عون وتمكين حكومة إلياس الهراوي وباصدار البرلمان اللبناني في مارس 1991 لقانون العفو عن كل الجرائم التي حصلت منذ 1975. في مايو تم حل جميع الميليشات باستثناء حزب الله وبدأت عملية بناء الجيش اللبناني كجيش وطني غير طائفي.

[2] جريدة الأخبار، الثلاثاء 22 أيار 2012 ، عدد:1713،ص:12
[3] حجر الضحك، ص:58
[4] حجر الضحك
[5] حجر الضحك
[6] حجر الضحك
[7] حجر الضحك
[8] حجر الضحك 

0 comments:

Post a Comment